فيسبوك وأفلام ومقاطع فيديو: قراءة في أحوال الصورة بعد ثورة يناير
لهيلاري كلينتون أن تصف ثورة مصر بأنها "انتفاضة" أو مجرد انتقال من نظام سياسي إلى آخر أكثر ديموقراطية، ولجون كيري أن يسعى للقضاء عليها من خلال دعم فاشية دينية فاسدة، يسهل لأمريكا التحكم فيها. وللاسلاميين أن يعتبروها هدية سقطت عليهم من السماء. ليعتقد من يشاء ما يشاء حول ما حدث في 25 يناير وما بعده، ولنا أن نتصورها كما نشاء.
هي أكبر ثورة في تاريخ مصر. ليس لأنها أطاحت بنظام اعتقل المصريين في قفص من الجهل والفقر واليأس لثلاثة عقود، ولا لأن الملايين شاركوا فيها على طول البلاد وعرضها. وليس بالطبع لأنها أتت بدستور أسوأ من القديم وانتخابات أكثر فساداً وتزويراً مما كان يحدث. عندما أقول "ثورة" فلست أعني ما حدث خلال الثمانية عشر يوماً من يناير وفبراير 2011. ذلك لم يكن سوى مقدمة، أو "برولوج"، لمسرحية لم تزل في فصلها الأول بعد. الثورة هي انقلاب ثقافي بالأساس، وإلا ستصبح مجرد استبدال نظام سياسي بمثيله أوسلسلة من الاغتيالات على طريقة المماليك.
ليست الثورة مجرد استبدال نظام بآخر، ملكية بجمهورية، ديكتاتورية بديموقراطية، ولكنها بالأساس انقلاب وطفرة في البنية الثقافية والفكرية لجماعة ما. بهذا المفهوم أزعم أن ما يحدث في مصر والعالم العربي هو بداية تغيير جذري وشامل في الثقافة بمعناها الشامل: كل ما يتعلق بالانتاج الفكري والعلمي والعادات والتقاليد وأنماط الحياة والعلاقات بين الأفراد داخل الأسرة والعائلة والجماعة كلها. لم تصبح الثورة الفرنسية ثورة إلا مع انتشار قيم الإخاء والمساواة والحرية وانشاء عقد اجتماعي جديد بين المواطنين و"الدولة". ولم تصبح الثورة الأمريكية ثورة إلا مع القضاء على العبودية وارساء مفهوم الحريات الشخصية. وقبل أن تنجح الثورة الشيوعية كانت أفكار القرن التاسع عشر حول العدالة الاجتماعية قد أحدثت جدلا هائلا في كل مكان بالعالم.
على السطح يبدو وكأن الربيع العربي بلا ايديولوجية أو مرجعية ثقافية مماثلة لهذه الثورات. وسأحاول هنا أن أثبت العكس من خلال تتبع بعض المجالات والوسائط الثقافية مركزا على لغة الصورة عبر تجلياتها السينمائية والتليفزيونية والاليكترونية.
الصورة/الثورة
هل اختلف مفهوم الصورة لدى المصريين نتيجة ما حدث – ويحدث- منذ ثورة يناير؟ لنتأمل مفهوم المصريين عن الصورة السينمائية والتليفزيونية قبل الثورة.
التصور السائد عن السينما أنها تسلية للترفيه وعلى أفضل الأحوال قصص تعبر عن الواقع بعد تنقيح وفلترته وتعقيمه ليوافق الذوق البورجوازي وتصوراته عن الأخلاق والدين والعلاقات الاجتماعية.
التصور السائد عن الصورة التليفزيونية أكثر محافظة، وهناك اعتقاد عام بأن التليفزيون هو قناة النظام والطبقة العليا لتوصيل ما يريده إلى الناس. وهذا النظام أو الطبقة من حقه، بل واجبه، أن يضع قواعداً وشروطاً وإطاراً حديدياً لما يمكن قوله وعرضه وما لا يسمح بقوله أو عرضه في التليفزيون.
بالنسبة للانترنت الأمر مختلف بالطبع، ودخوله إلى مصر أحدث صدمة معرفية هائلة، خاصة فيما يتعلق بالمفهوم السائد عن امكانية الرقابة، وظل التعامل معه باعتباره مجالاً هامشياً مختلساً وغير معترف به رسمياً...يقع على حدود الخصوصية والسرية عوضاً عن أن يكون فضاء علنيا، public.
خلال الكثير من حواراتي التليفزيونية أو الصحفية عن الرقابة على الأفلام والتليفزيون، كثيراً ما يحدث أن يصاب المحاور أو الضيف المعارض بالدهشة حين أذكر له أن في بيته وفي غرفة أطفاله شئ اسمه الكمبيوتر ينقل إليه كل شئ في العالم بما في ذلك أكثر الأفكار تخريبا وأكثر الصور بورنوجرافية، ويبدو كأنه لم يكن يعرف، أو لم يكن يرغب في التفكير في هذا الأمر.
لقد ظل الانترنت فضاء مسكوتا عنه وغير معترف به حتى 25 يناير عندما فزعت الدولة فجأة وقررت ايقافه ليلة 28 يناير. قبل ذلك بعدة أشهر عندما قام أحد الصحفيين بسؤال جمال مبارك عن المعارضة على الانترنت و"الفيسبوك" ضحك مستهزئا...وقال عبارته الشهيرة "رد عليهم يا حسين"!
الحتمية التكنولوجية وثورة يناير
حتى نفهم حجم التأثير الذي أحدثته تكنولوجيا الاتصالات المسماة بالثورة الرقمية يمكن أن نضع في الخلفية مقارنة بما أحدثه اختراع المطبعة في أوروبا في القرن الثامن عشر، أو ما أحدثه ظهور القنوات الفضائية العابرة للحدود في بداية التسعينيات مع حرب الخليج الثانية ودخول قناة "سي إن إن" للفضاء العربي لتنقل وقائع الحرب على الهواء مباشرة.
لم يكد العقل العربي يفيق قليلاً من صدمة هذا الانتهاك المادي، بالطائرات والصواريخ، والثقافي، بالأقمار الصناعية، لحدوده، حتى بدأت أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة في دخول حياته اليومية بسرعة هائلة ومرعبة. فيما يتعلق بمجال صنع الأفلام حدثت طفرة مماثلة منذ عام 1998، السنة التي قام فيها المركز الثقافي السويسري بالقاهرة، برولفستيا، بعقد أول ورشة للتدريب على استخدام الكاميرات الرقمية الحديثة، ومولد ما عرف باسم "السينما المستقلة". قبل ذلك لم يكن من الممكن لأي مواطن أن يعمل في مجال صناعة الأفلام إلا و تخرج رسمياً من المعهد العالي للسينما الذي يقبل عددا محدوداً من الطلبة كل عام، معظمهم يتخرج ولا يجد فرصة للعمل لأن المجال الوحيد المتاح كان السينما التجارية السائدة، أو العمل في التليفزيون المصري أو الهيئة العامة للاستعلامات.
على مدار عشرين عاماً من حرب الخليج الثانية وحتى بداية 2011، حدثت ثورة ثقافية "صورية"هائلة أزعم أن أبنائها هم المعادل لما يسمى بالطبقة العاملة، أو البروليتاريا، في الأدبيات الماركسية. رأى ماركس أن الثورة ستقوم بها الطبقة العاملة لعدة أسباب على رأسها أنها الطبقة الأكثر وعياً بحكم صلتها المباشرة بالتكنولوجيا. ولعل الكثير من الماركسيين أنفسهم لا يعرف الأهمية التي أولاها ماركس للتكنولوجيا ووسائل الإتصال الحديثة لدرجة أن بعض خصومه اتهموه بأنه من دعاة "الحتمية التكنولوجية"...أي أن تطور التكنولوجيا هو الذي يحرك الوعي والفكر والفن والثورة.
في "البيان الشيوعي" الصادر عام 1872، يقول ماركس وانجلز بالنص:
" الطبقة العاملة لا يزداد عددها فحسب مع تطور الصناعة، ولكنها تتجمع أيضاً في جماهير أوسع وأعظم فتنمو قوتها وتحس هي بهذه القوة بصورة أكبر. كذلك يزداد تقارب المصالح وظروف الحياة المختلفة في صفوف الطبقة العاملة بمقدار ما تمحو الآلة كل فرق في العمل....ويساعد على هذا الإتحاد واشتداده تطور وسائل المواصلات التي تخلقها الصناعة الحديثة والتي تجعل العمال في مختلف الجهات والمناطق على احتكاك ببعضهم البعض".
هذه الفكرة نسيت تقريباً أمام الحديث عن "الحتمية التاريخية" الذي أغرق الأدبيات الماركسية، ولكنها ولدت مرة أخرى على يد المفكرين الذين تناولوا تأثير وسائل الاعلام الحديثة، خاصة التليفزيون، منذ ستينيات القرن الماضي، مثل يورجن هابرماس ومارشال ماكلوهان و ايهاب حسن وجان بودريلار.
هابرماس طرح الفكرة بوضوح في كتابه "التكنولوجيا والعلم بوصفهما ايديولجية" الصادر عام 1968. وقبله بأقل من عام أصدر مارشال ماكلوهان كتابه الفارق " الوسيط هو الرسالة" Message is the medium. تتلخص فكرة الكتاب في أن تأثير الوسيط الإعلامي أهم من الرسالة والمضمون اللذين يحملهما، وهو قارن اختراع التليفزيون بإختراع المصباح الكهربائي، وقال أن الإثنين غيرا حياة ووعي البشر بنفس القدر، وبغض النظر عن المضمون الذي يبثه التليفزيون سواء كان مادة ثقافية أو مجرد اعلانات تافهة!
المفكر الأمريكي المصري إيهاب حسن طور أفكار ماكلوهان وقال بالنص أن "الكمبيوتر سيصبح بديلاً للوعي أو امتداداً للوعي الإنساني". المفكر الفرنسي جان بودريلار كتب في بداية الثمانينيات أن "وسائل الإعلام تحدث ثورة، بل أنها في حد ذاتها ثورة بغض النظر عن محتواها" وأن تطورها يحدث بالضرورة تغييرات اجتماعية وسياسية.
فيضان الصورة وأيقونات الثورة
ليس هناك شك في الدور الذي لعبته الصورة في الثورة المصرية، الفيسبوك، الكاميرات الرقمية سواء التي يحملها مراسلوا الصحف والقنوات الفضائية أو مواطنون عاديون، كاميرات الهاتف المحمول، فيضان من الصور ومقاطع الفيديو لعبت الدور الأكبر في التحريض على الثورة وتشجيع الآلاف على الانضمام إليها مع بث كل صورة أو مقطع متميز. من صورة الشاب الذي وقف أمام المدرعة في شارع القصر العيني يوم 28 يناير، وحتى الشاب الذي دهسته المدرعة أمس الأول في المنصورة.
في الآونة الأخيرة صدرت العديد من الكتب والمقالات والأفلام التي رصدت "ثورة الجرافيتي" في مصر بالتزامن تقريبا مع صعود ثقافة الثورة وامتدادها. الفن التشكيلي عادة ليس من الفنون التي يستهلكها المصريون المعاصرون، ولكن الجرافيتي أحدث انقلاباً في الذائقة تحتاج بالتأكيد إلى بحث منفصل.
الموسيقى والفرق الغنائية التي سبقت وظهرت مع الثورة تحتاج أيضا إلى أكثر من بحث. قبل الثورة قام المخرج أحمد عبد الله بتوثيق الفرق المستقلة في فيلمه "ميكروفون". بعد الثورة قام إثنان من المخرجين الألمان هما ألكسندر بريف ويوهانيس روزكام، بعمل فيلم وثائقي طويل في جزئين بعنوان "أغاني القاهرة" أو Tracks of cairo قاما فيه برصد عدد كبير من الفرق والمغنيين الذين ولدوا من رحم الثورة.
برامج "التوك شو" التليفزيونية، وبرامج السخرية السياسية على طريقة "برنامج" باسم يوسف ربما تكون قد ظهرت في مصر على استحياء قبل الثورة، ولكنها شهدت ازدهارًا كمياً مصحوباً بقدر من الحرية لا مثيل له في التاريخ. من الملاحظات الجديرة بالاهتمام أيضا ذلك التواصل بين أنواع الفنون والمجالات الثقافية، الكتب والأفلام والتصوير والرسم والأغاني.
حضور السينمائي...وغياب السينما
سأحاول هنا أن ألخص المشهد السينمائي في مصر قبل وعقب الثورة. ينقسم هذا المشهد إلى ثلاثة قطاعات رئيسية هي:
* السينما السائدة التجارية الروائية، وهي عماد صناعة السينما في مصر التي تعد من الصناعات المزدهرة منذ أكثر من سبعين عاماً.
* السينما الوثائقية، أو التسجيلية، والتي تنتجها الدولة غالباً، ممثلة في المركز القومي للسينما والتليفزيون المصري والهيئة العامة للاستعلامات.
* السينما المستقلة.
ظهر تعريف "السينما المستقلة" في مصر منذ حوالي خمسة عشر عاماً، مع دخول الكاميرات الرقمية وبرامج الكمبيوتر المتطورة، ونمت خلال هذه السنوات ببطء وتعثر أحياناً، ولكن بدون توقف. هذه السينما كان لها حضور كبير في ثورة يناير، يمكن تلخيصه في الملاحظات الآتية:
* معظم صناع هذه السينما شاركوا في الثورة فعليا بكاميراتهم وهتافاتهم ومشاركتهم في الفعاليات المختلفة للثورة، وكثير منهم صنع أفلاماً، بعضها انتهى، وبعضها لم ينته بعد، عن الثورة.
* معظم المصورين العاملين في القنوات الفضائية العربية من دارسي السينما، سواء في المعهد العالي للسينما الحكومي أو المدارس والورش الخاصة التي ظهرت في مصر خلال السنوات العشر الماضية، وكثير منهم يضيق به مجال العمل المحدود في السينما فيتجه إلى التليفزيون.
* معظم المصورين الصحفيين يحملون الآن كاميرات رقمية حديثة، تسجل الصور ثابتة ومتحركة. وقد خرجت عدة أفلام من المواد المصورة التي قام بتصويرها المراسلون الصحفيون. مثل صور موقعة كوبري قصر النيل، أو الشاب الذي وقف أمام المدرعة.
* إذا اعتبرنا أن الهواة هم عماد السينما المستقلة، فقد تحول الآلاف من المواطنين إلى صناع أفلام وثائقية خلال الثورة. بعض هذه المواد تم ارساله إلى القنوات الفضائية العربية للعرض على موقعها الاليكتروني أو القناة نفسها، وبعد ذلك تم استخدامه في صنع الأفلام. مثل فيديو الشاب الذي فتح صدره أمام الداخلية فقاموا بقتله في الأسكندرية، أو السيارة الديبلوماسية التي دهست المتظاهرين في شارع القصر العيني مساء 28 يناير، أو صور قتل شهداء السويس وسيناء وغيرها.
الأفلام عن ثورة يناير تنقسم بدورها إلى عدة قطاعات: الروائية، سواء التي تنتمي للسينما السائدة والصناعة، أو التي تنتمي للسينما المستقلة. والوثائقية بمختلف أنواعها وسوف أبدأ بالحديث عنها.
تنقسم الأفلام الوثائقية المصنوعة عن ثورة يناير إلى كتلتين أساسيتين. الأولى تضم الأفلام التي أنتجتها شركات انتاجية سينمائية للأفلام الروائية أو الوثائقية ومؤسسات اعلامية على رأسها محطات التليفزيون ويليها بعض الصحف المعروفة والهيئات الحكومية. والثانية تضم الأفلام "المستقلة" التي أنتجها أفراد سواء كانت فقيرة انتاجيا أو توفر لها تمويل جيد عبر شركات انتاج سينمائية.
فيما يتعلق بمحطات التليفزيون العربية والأجنبية تأتي "الجزيرة" في المقدمة بأكثر من خمسين فيلما، ثم تلحق بها قناة أو اثنتين أخريين بفيلم أو اثنين.
فيما يتعلق بالأفلام التي أنتجتها هيئات حكومية مثل هيئة الاستعلامات أو المركز القومي للسينما فليس هناك ما يمكن ذكره. وقد أثبتت هذه الهيئات الرسمية خصومتها للثورة وولائها المطلق للنظام القديم منذ اليوم الأول لقيامها، وحتى بعد شهور طويلة من سقوط النظام. ومن المذهل أن نعرف أن كلا الهيئتين لم ترسل كاميراتها إلى الميادين لترصد أهم حدث في تاريخ مصر الحديث! من الأفلام العديدة التي أنتجتها "الجزيرة" سأكتفي هنا باشارات سريعة لبعضها كأمثلة.
فيلم " المشهد من الثورة" إخراج وليد الجنيدي يتكون من سبعة مشاهد رئيسية من الثورة المصرية، التقطتها كاميرات المصورين المحترفين والمواطنين العاديين وتم بثها عبر الانترنت وعلى القنوات الفضائية فأثارت القلوب وحرضت العقول ودفعت الآلاف للانضمام إلى الثورة والتعاطف مع الثوار.
من بينها مشهد الشاب الذي تصدى لعربة رش المياه في شارع "القصر العيني" يوم 25 يناير، والذي رفض أن يعلن عن نفسه أو اسمه، ومشهد الشاب الذي اعتلى المصفحة في ميدان "التحرير" في نفس اليوم وسقط من فوقها هو وضابط الأمن الذي حاول اجباره على النزول، وحتى مشهد النقيب ماجد بولس يوم "موقعة الجمل" حين كسر الأوامر العسكرية وتصدى للبلطجية الذين حاولوا اقتحام الميدان، والذي رفض، أو منع بواسطة قادته، من الظهور في الفيلم.
يعتمد الفيلم على عرض هذه المشاهد مع العودة إلى الأماكن التي التقطت فيها بصحبة من قام بتصويرها وشخصياتها، أو الذين بقيوا منهم، فأغلبهم استشهد أو فضل عدم الظهور.
أيضا من الأفلام التي ركزت على ملمح بعينه من الثورة فيلم "عندما أشعلنها" للمخرج محسن عبد الغني الذي يرصد دور المرأة في الثورة، ويسجل بعض البطولات لنساء وفتيات عرضن حياتهن وسمعتهن للخطر في سبيل بلدهن، وكان الدور الذي لعبنه حاسماً في نجاح هذه الثورة لأسباب كثيرة، من بينها التأكيد على سلمية وتحضر الثورة، وعلى وجهها المديني على عكس ما كان يروج نظام مبارك من أن الأخوان هم صناع هذا "الانقلاب"، وهي الكذبة التي صدقها الإخوان أنفسهم بعد ذلك. وقد بذلوا، ولا يزالون، جهدا حثيثاً لطرد النساء من ميادين الثورة.
من أوائل الأفلام التي صنعت عن الثورة أيضا التقرير الفيلمي "الثورة الضاحكة" الذي أنتجته قناة "بي بي سي" بعد أيام من تنحي مبارك. فبالرغم من أنه تقرير إخباري تليفزيوني من الناحية الوظيفية إلا أنه أقرب لطبيعة الفيلم الوثائقي.
بجانب محطات التليفزيون هناك بعض المحاولات المتواضعة التي قامت بها مؤسستا "الشروق" و"المصري اليوم" الصحفيتين، للاستفادة من المواد التي صورها مراسلوا الصحيفتين، والمواد التي أرسلها إليهما بعض القراء.
صحيفة "الشروق" اليومية أنتجت سلسلة من الأفلام تشبه سلسلة يوميات الثورة التي أنتجتها "الجزيرة" بنفس الاسم، ونفس التقسيم الزمني إلى أيام، ولكن بمستوى بدائي لدرجة أنه لا يوجد اسم مخرج لهذه التقارير الفيلمية، وإنما مشرف عام.
صحيفة "المصري اليوم" كانت أكثر طموحاً وبدلاً من التقارير قررت أن تنتج فيلماً وثائقياً باسم "الثورة خبر" استعانت له بمخرج شاب هو بسام مرتضى، وقامت بانتاجه بشكل احترافي، ويمكن القول أن التجربة نجحت خاصة أن الفيلم اختير للعرض في مهرجان برلين السينمائي الدولي، كما أختير للمشاركة في عدد من المهرجانات الأخرى، ولكن للأسف لم تتحمس واحدة من القنوات العربية لشراء حقوق عرضه حتى الآن.
أيضا يمكن الإشارة إلى أنه للمرة الأولى تقريباً يعرض فيلم وثائقي طويل مكون من ثلاثة أفلام قصيرة في دور العرض السينمائي العامة، المخصصة للأفلام الروائية. صحيح أن دور العرض العامة تشهد أحيانا عرض بعض الأفلام الوثائقية في إطار مهرجان، أو حدث ثقافي ما، ولكن المختلف هنا هو أن الفيلم، الذي يحمل عنوان "الطيب والشرس والسياسي" ( اخراج تامر عزت، أيتن أمين وعمرو سلامة)، قد أنتج خصيصاً لهذا الهدف وهو العرض العام، كما أن منتجه محمد حفظي واحد من منتجي الأفلام الروائية المعروفين في الساحة السينمائية المصرية الآن.
متى يمكن صنع فيلم عن الثورة؟
السؤال الذي يطرح كثيراً هذه الأيام هو الوقت اللازم الذي ينبغي انقضاءه قبل انجاز عمل فني جيد عن ثورة يناير. يمكن الاجابة على هذا السؤال من خلال تأمل فيلمين ينتميان لنوعية اليوميات، التي أعتقد أنها فكرة جيدة تحل معضلة الحديث عن حدث لا يزال يجري على الأرض. الأول هو فيلم "مولود في 25 يناير" للمخرج أحمد رشوان، والثاني هو "نصف ثورة" اخراج عمر الشرقاوي وكريم الحكيم.(1)
لكن المسألة في تصوري لا تتعلق بتقديم أعمال تدور حول أحداث الثورة، بقدر ما تتعلق بأن تكون هذه الأعمال نفسها قد تأثرت بالثورة وثقافتها. الأفلام الروائية التي صنعت عن الثورة حتى الآن شديدة التقليدية. معظم الأفلام والمسرحيات التي ظهرت عقب تنحي مبارك مباشرة تم اضافة مشاهد للثورة على أحداثها. واحد من هذه الأفلام كان عنوانه "الحقنا ياريس" وتحول بعد الثورة إلى "صرخة نملة"، والثاني هو"الفاجومي" لمؤلفه ومخرجه عصام الشماع، ورغم أنه ينتمي للمعارضة السياسية تماماً، إلا أنه فيلم تقليدي يحتوي على التوليفة المعتادة للسينما التجارية. الشئ نفسه ينطبق على فيلم "18 يوم" بالرغم من أن معظم السينمائيين الذين شاركوا في صنعه ينتمون فكريا إلى الثورة. وبدرجة أكبر على فيلمي "تيك توك بوم" لمحمد سعد و"حظ سعيد" لأحمد عيد، وبدرجة أقل على فيلم "بعد الموقعة" ليسري نصر الله.
هذه الأفلام تظل أسيرة نظام الانتاج والتفكير القديم في معنى ودور وجمهور الفن. لكن محاولات التحرر نجدها في السينما المستقلة بأنواعها. هناك مثلا الأفلام القصيرة جدا التي يمكن تشبيهها برسومات الجرافيتي على الحوائط، والتي تمزج بين الفن والتحريض السياسي المباشر، ومن بينها سلسلة أفلام تحريك طريفة لشركة انتاج اسمها "خرابيش"، ومثلها يوجد العشرات من الأنواع التي تتخذ شكل الكليب الاعلاني السريع أو الشكل الوثائقي أو الروائي، ويجمع بينها أنها تهدف إلى التوعية السياسية المباشرة من خلال استخدام القوالب الفنية المعروفة، أو الاستعانة ببعض التقنيات المستمدة من السينما الروائية والوثائقية السائدة.
وفي مجال الأفلام الروائية الطويلة فإن أكثر فيلمين يعبران في تصوري عن السينما المصرية القادمة هما "الخروج للنهار" للمخرجة هالة لطفي و"هرج ومرج" للمخرجة نادين خان. وهما لا يتناولان موضوعات لها علاقة بالثورة من قريب أو بعيد. الأول يخطو بجرأة نحو واقعية تختلف عن الميلودراما الاجتماعية التي طالما سادت السينما المصرية ووصفت بالواقعية. والثاني يسحب هذه الواقعية إلى مجال الفانتازي أو الواقعية السحرية محرراً هذه السينما من قيود الالتزام السياسي التي طالما كبلتها (2).
الثورة لا تزال مستمرة، وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تصل إلى عقولنا وحياتنا اليومية وفنوننا.الخلاصة أنها لم تفرز فنها الخاص بعد، لكن ملامح الجنين لم تزل تتشكل أمام أعيننا.
:هوامش
1. يمكن الرجوع إلى مقالتين تفصيليتين عن الفيلمين على الرابطين التاليين:
http://www.masress.com/rosasabah/137183
http://doc.aljazeera.net/followup/2012/05/20125218279298656.html
2. للمزيد عن الفيلمين يمكن الرجوع للرابطين التاليين:
http://www.elsaba7.com/articledetails.aspx?id=255
http://www.elsaba7.com/articledetails.aspx?id=709